الانتخابات التي نريد

تطرح الانتخابات في أي مجتمع ديمقراطي سؤالا جوهريا حول طبيعتها ووظيفتها. فهي ليست مجرد لحظة تقنية تفرز ممثلين عبر صناديق الاقتراع، وإنما هي تعبير عن عقد اجتماعي متجدد يعكس إرادة الأمة في صياغة حاضرها وصناعة مستقبلها. وإذا كان أرسطو قد قال إن المدينة لا تُقام من أجل العيش فقط وإنما من أجل حياة صالحة، فإن الانتخابات التي نريدها ينبغي أن تكون مدخلًا لحياة سياسية سليمة، قوامها الشفافية والمصداقية والمساءلة.

إن أول ما نطمح إليه هو أن تكون الانتخابات نزيهة في كل مراحلها، من التسجيل في اللوائح إلى إعلان النتائج. فالنزاهة هنا ليست شعارا يرفع وإنما منظومة متكاملة تضمن حياد الإدارة، وعدالة الإعلام، وصرامة مراقبة التمويل الانتخابي.

فالمال إذا انفلت من الضوابط حوّل العملية الانتخابية إلى مزاد علني، وحول السياسة إلى سوق نفوذ بدل أن تكون مجالا لتدبير الشأن العام. ولعل أمارتيا سن حينما اعتبر أن التنمية هي توسيع للحريات، أراد أن يذكّرنا بأن حرية الاختيار السياسي لا تتحقق إلا حين يكون الناخب محصنا ضد سطوة المال وضغط المصالح.

لكن النزاهة وحدها لا تكفي، إذ إن الانتخابات لا بد أن تعكس الإرادة الحقيقية للمواطن. هنا نستحضر روسو الذي رأى أن الإرادة العامة هي أساس المشروعية. فالمواطن حين يقبل على التصويت ينبغي أن يجد برامج واقعية تجيب عن حاجاته اليومية: التعليم، الصحة، التشغيل، البيئة. وحين يعزف عن المشاركة، فذلك يعني أن العرض السياسي يعاني فراغًا في المصداقية. بهذا المعنى يصبح الامتناع عن التصويت مؤشرا على أزمة ثقة، لا على حياد أو لا مبالاة.

ومن أجل أن تكون الانتخابات مدخلا لبناء مؤسسات قوية، يجب أن لا تكون غايتها الوحيدة توزيع المقاعد، بل أن تفرز برلمانا فاعلا يناقش القوانين بجدية، وحكومات قادرة على تحويل الوعود إلى سياسات قابلة للتنفيذ، ومجالس محلية تحسن تدبير المال العام وتستجيب لمتطلبات التنمية المجالية. فابن خلدون حين تحدث عن العصبية التي تضمن تماسك الدولة، كان يعني أن السلطة لا تستقيم إذا انفصلت عن قيم جامعة. وفي الديمقراطية الحديثة، هذه القيم الجامعة تتمثل في الثقة بين المواطن ومؤسساته.

إن الانتخابات التي نريدها يجب أن تكون أيضا مناسبة لتجديد النخب السياسية. فالمشهد لا يمكن أن يظل أسيرا لوجوه مكرورة فقدت بريقها، بل يجب أن يُفتح المجال أمام كفاءات شابة وطاقات نسائية تعكس حيوية المجتمع وتنوعه. جون ستيوارت ميل كان يعتبر أن المشاركة في الشأن العام مدرسة للمواطنة، وكلما اتسعت قاعدة المشاركة، ارتفع منسوب الرقابة المجتمعية على الفاعلين السياسيين.

غير أن التحدي الأكبر في زمن الرقمنة هو مواجهة التضليل الإعلامي وصناعة الوهم الانتخابي عبر المنصات الرقمية.

فالانتخابات لا يمكن أن تكون معركة للصور والشعارات الخاوية، بل ينبغي أن تكون فضاء للجدل العمومي الراشد. وهنا تبرز أهمية التربية على المواطنة الرقمية، وإرساء آليات مستقلة للتحقق من الأخبار، حتى لا يتحول الفضاء العمومي إلى حلبة لتزييف الوعي الجماعي. لقد نبّهت حنّة آرندت إلى أن السياسة فضاء للظهور، لكن هذا الظهور لا يكتسب شرعية إلا إذا كان قائمًا على الحقيقة لا على التضليل.

وأخيرا، فإن الانتخابات التي نريدها هي تلك التي تجعل من السياسة وسيلة لبناء الأمل لا لإعادة إنتاج الإحباط. إن الشرعية الديمقراطية لا تُقاس فقط بنسبة المشاركة أو بعدد المقاعد، وإنما تُقاس بمدى قدرة المؤسسات المنبثقة عنها على ترجمة الوعود إلى إنجازات ملموسة. عندها فقط نستطيع القول إننا انتقلنا من شرعية التفويض إلى فعالية الحكم، وأننا أسسنا لعقد ثقة جديد بين المجتمع والدولة. وكما قال مونتسكيو: «الفضيلة هي روح الجمهورية»، فإن فضيلة عصرنا تتمثل في الشفافية والمساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة.

-أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس

The post الانتخابات التي نريد appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

 

Leave a Reply

Deine E-Mail-Adresse wird nicht veröffentlicht. Erforderliche Felder sind mit * markiert