سردياتُ أعيُن لا تنام

رغم أننا نعيش في قلبه، فإننا قلما نفكر فيه. “اليومي” ليس مفهوما عابرا في المعاجم الاجتماعية أو الفلسفية، إنه ذلك الكائن الشبحي الذي يسكن تفاصيلنا، يندس بين المواعيد والأكل، ومكالمات الهاتف المتكررة، ويُخدع وعينا حين يُوهمه بأنه “بلا معنى”. لعل خطورة اليومي لا تكمن في بساطته الظاهرة، وإنما في قدرته على التسلل إلى العقل دون أن يثير شكوكه. فالعادة، وهي الصيغة الأكثر سذاجة لليومي، تنسجُ حولنا قفصا من الطقوس الصغيرة التي لا تُرى؛ لكنها تُطبع في الجسد واللغة والخيال.

عن وجوه الناس في الإشارات الضوئية

في تلك اللحظات العابرة عند الإشارات الضوئية، تُصبح زجاجة السيارة شاشة عرض سينمائية، لا تحتاج إلى تذكرة دخول ولا صوتا ولا مؤثرات خاصة. كل ما تحتاجه هو أن تُحدق، وأن تمسك بفضولك كأنك باحث في مختبر مشاعر. من خلف المقود، يطل الوجه البشري على العالم كما لم يفعل من قبل: وجه مقطب لم ينتبه إلى أن أحدا يراه، وآخر مبتسم ابتسامة غريبة كأنه يرد على رسالة لا يعرف أحد فحواها، ووجه ثالث شارد يحدق في اللا-شيء كأن اللحظة توقفت معه، لا لأجل المرور، وإنما لأجل شيء أعمق: تأمل مُرّ في معنى الرحلة كلها.

في الإشارات الضوئية، كل شيء ساكن إلا القلق. يُمكنك أن ترى كيف تتقلب العيون، كيف ينهار الصبر في تجاعيد الجبهة، وكيف يتحول الانتظار إلى تمرين لا إرادي في عضلات الوجه. هناك من يعبث بأزرار الراديو في حركة أقرب إلى القلق الجسدي منها إلى حب الموسيقى، وهناك من يُقلب شفتيه كما لو كان يُعد شيئا في ذهنه، وبعضهم يُطيل التحديق في الضوء الأحمر، كما لو أنه يُفاوضه سرا أو يشتمه دون صوت.

في هذه اللقطة الثابتة، نكتشف أن الإنسان لا يحتمل الوقوف؛ لأنه دوما في عجلة من أمره، ولأن الوقوف يُجبره على أن يواجه نفسه. الإشارة الحمراء، في عالم السرعة والتدافع، تشبه الوقوف أمام المرآة دون أن تكون مستعدا لذلك. ترى الرجل الأربعيني يحدق في اللافتات وكأنها تُجيب عن أسئلة مصيرية، وتلك السيدة تنظر إلى المسافة أمامها كما لو أن الضوء الأخضر هو وعد قديم لم يتحقق بعد.

السيارة في لحظة التوقف تعني الوقوف عن الحركة، والوقوف عن التمويه. هنا لا مجال للانشغال بالمهمة التالية، لا مكالمات طارئة، لا استعراض للبطولات اليومية. كل شيء متوقف، إلا الذهن الذي يشتعل. وهكذا، تتحول الإشارة إلى مشهد حميمي عام، وإلى حقل مفتوح لدراسة الاضطرابات الدقيقة في الحياة المدنية. فجأة، يصبح المواطن البسيط مواطنا بسيطا جدا، متوترا، يراقب العد التنازلي كمن يراقب مصيره يتبخر.

ثمة من يغتنم لحظة التوقف ليُدخن سيجارة، كأنه يُمارس طقسه الصغير في الهروب من الزمن. ثمة من يُنقب أنفه كما لو أن أحدا لا يراه، وثمة من يُحاول ترتيب شعره في المرآة، لأن الإشارة فرصة لتصحيح كل ما خربته الحياة خلال السير. وهناك الوجوه التي تتكلم وحدها، بشفاه تتحرك دون صوت. هؤلاء إما يحاورون أرواحهم، أو يُجرون بروفة لمواجهة مقبلة.

تفضح لحظات التوقف عند الإشارة فكرة السيطرة. أنت في سيارتك، تُمسك المقود، وتظن أنك المتحكم، ولكن ضوءا أحمر صغيرا يُرغمك على الوقوف. قوة غامضة، لا تُرى، تُجبر الجميع على التساوي في الخضوع. وهذا ما يجعل الوجوه تنزعج: السلطة التقنية تسحب منا أوهام السيادة، فنتكشف كم نحن غاضبين أحيانا من أنفسنا أكثر من النظام المروري.

في وجوه الناس عند الإشارات الضوئية، نرى أيضا قوالب الزمن المتصدعة. الموظف المتأخر يحسب الثواني مثل مجرم يراقب لحظة النطق بالحكم. الطالب النائم نصفه في الدرس ونصفه في وسادته. الأم تلتفت للأطفال في الخلف، لا لتربيتهم؛ ولكن لتوقيف الزمن عن الانفجار.

قد تقول إن الناس فقط ينتظرون الضوء الأخضر؛ لكن الحقيقة أن لكل منهم ضوءه الخاص الذي لم يشتعل بعد. الضوء الذي يحلم به. الإشارة الحمراء تنبش داخلهم ذلك الضوء المفقود. لذلك، يبدون مشتتين، كأنهم فقدوا شيئا ثمينا ولم يتذكروه إلا الآن.

من الطريف أن ترى بعضهم يتجاوز الخط قليلا، كما لو أنه يفاوض النظام، يقتطع بضعة سنتيمترات من الانتظار، لا ليصل أسرع من الآخرين، وإنما ليشعر بأنه تحدى القوانين الرمزية. وكأن الوقوف يعني الاستسلام لزمن الحياة الذي لا ينتظر.

ومن المدهش أن تكتشف تلك اللحظة حيث يُصبح الناس مرآة لبعضهم. أحدهم يتثاءب، فتتثاءب السيارات من خلف الزجاج. أحدهم يضحك في الهاتف، فترتد عدوى الفضول على البقية. هكذا، تنشأ صلة خفية بين الغرباء، بوصفها مسرحا للتعبيرات. وكل واحد يؤدي دوره دون أن يعلم أن الجمهور يراقبه من الجهة المقابلة.

ثمة من يعزف على المقود كأنه بيانو، وهناك من يُراقب الحمام في السماء باهتمام مُريب، وآخرون يُطيلون النظر في عيون الآخرين، كما لو أنهم يبحثون عن شريك في الضجر. هذه لحظة مسرح عبثي لا تُكتب حواراته، ولا تُعاد مشاهدُه؛ لكن كل واحد فيها يفضح قلقه الصغير.

في لحظة التوقف، تتساوى المركبات، لا فرق بين سيارة فارهة وأخرى متداعية. الكل يملك الشعور نفسه بالإحباط، والرغبة في التحرك. حتى الموسيقى داخل السيارة تصبح بلهاء أحيانا، لا تسلي؛ بيد أنها تُذكر بأن الزمن يتلاعب بك. بعض الوجوه تتصنع اللامبالاة، لكن العينين لا تكذبان. من في الداخل يُحاول أن يبدو مرتاحا، يغيّر وضعيته، يفتح النافذة، يُغلقها، يتفقد الهاتف كمن ينتظر نبوءة، ثم يُعيده إلى مكانه، كمن خاب أمله. تكشف الإشارة الضوئية هشاشة اليومي، وتحوله إلى طقس نفسي مملوء بالهواجس الصغيرة.

الضوء الأحمر ليس لحظة حياد، لعله كشف لمقدار الجنون الذي يمكن أن يحمله إنسان في دقيقة واحدة. هي لحظة سريالية نادرة، تتجمد فيها الحياة.

في بعض اللحظات، تُشبه الإشارة وقفة تأمل في الحياة نفسها. نركض، نركض، ثم نجبر على التوقف. وهنا، نكتشف أننا لا نعرف لماذا نركض أصلا. هي لحظة نادرة يعجز فيها الإنسان عن تبرير حركته، فيضطر إلى مواجهة الغموض الذي يُغلف قراراته.

وهكذا، يبدو أن ما نعتبره مجرد “إشارة ضوئية” هو في الحقيقة أداة تحليل نفسي متنقلة. لحظة توقف تُنذر بما في دواخلنا من قلق، غضب، انتظار، شوق، وحتى تعب لا نُفصح عنه. كلها تتسرب من الوجوه دون أن نشعر، وكأن الأحمر يضغط على زر اللاوعي، فينفجر على شكل تعبيرات لا يمكن كبحها. وهكذا، تجد نفسك، وأنت في السيارة، جزءا من عرض لا تدري متى بدأ، ولا تعرف متى ينتهي. تنظر إلى الآخرين، وتفهم فجأة أن الجميع مثلك، يحملون توترا غير مُسمى، وضجة داخلية لا يراها أحد. والضوء، مهما تأخر، سيصير أخضر؛ لكن السؤال يبقى: هل سنعرف إلى أين نذهب حين نتحرك، أم أننا فقط نهرب من لحظة الوقوف التي تكشفنا أكثر مما نحتمل؟

عن نظرة الناس نحو شاشة هاتفك في القطار

في القطار، حين تنغلق الأبواب وتتحرك العربة بثقة ميكانيكية نحو محطتها التالية، يبدأ عرض غير مُعلن، مسرحية صامتة تتبدى في عيون المسافرين وهم يختلسون النظرات إلى شاشة هاتفك. لا إعلان سابق، ولا دعوة رسمية للحضور؛ لكن العرض يبدأ بمجرد أن تفتح تطبيقا، أو تكتب رسالة، أو تمسح صورة، وها هم الحضور يحدقون. بعضهم يتظاهر بالنعاس، وآخرون يلبسون سماعات لا تُشغل شيئا؛ لكن عيونهم تعيش حياة أخرى على شاشة هاتفك، حياة لم يدفعوا مقابلها، ولا ينوُون الاعتذار عنها.

في هذا الفضاء المُغلق، تتلاشى الحدود بين الخاص والعام، فيغدو الهاتف، رغما عن حجمه الصغير، نافذة تُطل منها الذوات على بعضها البعض دون استئذان. ثمة عيون تتسلل من زوايا لا تتخيلها، تتقن فن الرؤية دون إثارة الشك. هؤلاء لا يسمون تطفلهم تطفلا، بيد أنهم يصفونه بالفُضول الاجتماعي، بالانخراط في حياة الآخرين “من باب التسلية”. ينظرون دون ندم؛ بل أحيانا يبتسمون لما قرأت، كما لو أنك قلت لهم نكتة، أو يقطبون حواجبهم إذا كتبت شيئا غامضا، كأنهم يطالبون بتوضيح. بعضهم يعيش داخل هاتفك لحظات أكثر منك. ترى الرأس مائلا بزاوية شبه هندسية، والعين تلاحق الحروف كأنها تفك شفرة وثيقة سرية. وإذا غيّرت التطبيق، تغيرت زاوية الرؤية. وإذا قفلت الهاتف، توتروا، كأنك أغلقت نافذة على موسمهم الدرامي المفضل. لا تعرف متى بدأت هذه العلاقة الغريبة بين شاشة هاتفك وحدقاتهم؛ لكنها تستمر وكأنها فعل طبيعي من أفعال المواصلات.

الهاتف الذكي، في القطار، يتحول إلى مرآة لفضائحنا الصغيرة، أو لنقل لنزواتنا البصرية التي لا نجدها في النافذة الخارجية. فالمنظر من الخارج رتيب؛ لكن الشاشة الصغيرة المضيئة تجذب الوجوه كما يجذب اللهب الفراشات. هم لا يعرفونك؛ لكنهم يعرفون رقم البطارية، اسم المُرسِل، وربما لاحقا طريقتك في الرد أو أسلوب كتابتك. وإذا رأوك تضحك، بدأوا في التخمين: من أرسل الرسالة؟ ماذا كتب؟ هل هي علاقة؟ هل هو شجار؟ وهل يمكن أن أرى المزيد إذا بقيت صامتا دون حركة؟

في هذا المسرح الضيق، يصبح منطق الخصوصية أمرا طريفا. فأنت جالس في حضن الزحام، تقرأ شيئا شخصيا، وتظن أنك وحدك؛ في حين أن العالم الصغير من حولك يتابعك مثل برنامج يبث على المباشر، وهم لا يُخبرونك بذلك لأنهم يظنون أن التسلل البصري لا يُعد اقتحاما، ما دمت لم تنتبه إليه.

أصبحت الهواتف امتدادا لحياتنا العاطفية والفكرية والمزاجية؛ لكن المشكلة أن النظرة السريعة تتحول إلى إقامة طويلة، خصوصا إذا صادف ما تفعله نوعا من التشويق، أو السذاجة.. فهناك من يتفرج عليك وأنت تكتب رسالة حُب، ويعيشها كأنها له. البعض يكتفي بنظرة واحدة، والبعض ينظر بإمعان، كما لو أنه يشاهد مسلسلا قديما دُون ملل. والعجيب هو أن هذه النظرات تتنقل بين الشفقة والإعجاب والسخرية والفضول الخام. وأنت تظن أنك تتحكم في حياتك الرقمية؛ بينما هم يكتبون، سرا، سيناريوهات موازية لها.

الأكثر مدعاة للسخرية هو حين تبدأ أنت بالوعي بوجود من يراقبك، فتتحول حركتك إلى تمثيل: تكتبُ بحذر، تمسحُ بسرعة، تغير التطبيق كأنك تقول “لا شأن لك”. لكن اللعبة أصبحت مكشوفة، وهم يعلمون أنك تعلم، وأنت تعلم أنهم يعلمون، لكن القطار مستمر، والمسرح لن يُغلق.

وهنا يظهر السؤال الغريب: هل نحن ضحايا التطفل، أم أننا نُسر سرا بأن هناك من يهتم؟ هل نحن منزعجون لأن أحدا يراقب، أم لأننا لا نتحكم في الرواية التي تُعرض عنه؟ وهل هذه المساحات المغلقة، مثل القطار، ليست إلا نسخا مكثفة من العالم المفتوح، حيث الكل يراقب الكل، والخصوصية أصبحت رفاهية شبه خرافية؟

إن التطفل في القطار ليس مرضا فرديا، بقدر ما هو ظاهرة سوسيولوجية طريفة؛ إنها تعبير مكثف عن مجتمع اعتاد ألا يعيش حياته، وإنما حياة الآخرين.

المضحك في الأمر هو أن الفضولي لا يعترف بأنه فضولي؛ لأنه يبرر لنفسه سلوكهُ بالحجج الكبرى: الملل، الفراغ، حب الناس، البحث عن الإلهام، أو حتى دراسة سلوكيات المجتمع. لكنه في الحقيقة يريد أن يرى ماذا تفعل، لا ليعرفك، وإنما ليملأ الثقب في يومه.

وفي هذا الجو العجيب، يصبح الهاتف أشبه بلعبة روسية. تفتحه فتحصل على جرعة من الدوبامين؛ لكنك تمنح في المقابل لعيون مجهولة حق التنقيب فيك. وعندما تُغلقه، تنتقل النظرات إلى هاتف آخر، في دورة تتكرر كل صباح وكل مساء، كأنها طقس جماعي للفضول العصري.

قد تقول لنفسك إنك لا تكترث؛ لكنك، حين تعود إلى بيتك، ستتذكر أن هناك من رأى صورة أمك، أو رسالة صديقك، أو أغنية حزينة كنت تسمعها في الخفاء. وهنا تدرك أن نظرات القطار لم تكن بريئة، فقد كانت مرآة ضخمت هشاشتك، ولم تُنبهك إلا بعد فوات القطار.

ربما كان الأجدى أن نضع ستائر على هواتفنا بدل وضعها على نوافذ غرفنا. على الأقل، في عالم صار فيه الضوء المنبعث من شاشتك أكثر فضحا من كلماتك، وأكثر إثارة للناس من مشهد الغروب خارج نافذة القطار؛ لكن لا تقلق، في القطار المقبل، سيكون الدور على شاشة غيرك.

لنتأمل، وإلى حديث آخر.

The post سردياتُ أعيُن لا تنام appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

 

Leave a Reply

Deine E-Mail-Adresse wird nicht veröffentlicht. Erforderliche Felder sind mit * markiert