سوس العالية..

هناك تحولات كثيرة أصابت المغرب القروي، منها ما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي، وتعتبر منطقة سوس العالية ـ التي هي موضوع مقالنا هذا ـ جزءا من هذا المغرب القروي، لكن بخصوصيات اجتماعية وثقافية مختلفة نوعا ما عن باقي مناطق سوس وباقي المجال القروي بالمغرب، وهذا ما يجعلنا نفرد لها مقالا خاصا لرصد بعض من هذه التحولات التي أصابتها، لأن الحديث عن كل التحولات التي أصابت سوس العالية لا يكفي مقال واحد لاستيعابها، بل يحتاج إلى مقالات مطولة إن لم أقل مؤلفات.

ولهذا سنرصد في هذا المقال ـ أيها القارئ الكريم ـ بعضا من هذه التحولات، التي مست بعضا من المؤسسات الاجتماعية لتدبير الشأن العام الجمعي والمشترك، مقتصرين فقط على مؤسستي “تاقبيلت ولجماعت”، ومؤسسة المخزن “القايد وأمغار والمقدم”، ثم أخيرا مؤسسة المسجد “تيمزكيدة”، في أفق أن نخصص مقالات أخرى لباقي التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في القادم من الأيام.

ونقصد بالتحولات الاجتماعية في هذا الجانب أبرز التغييرات التي أصابت المؤسسات التي كانت تدبر الشأن العام الجمعي والمشترك للمنطقة، وتؤثث فضاءه قبل المرحلة الكولونيالية، أي التغيرات والعوامل التي أثرت على المؤسسات القائمة وتأثرت بها، أو أدت إلى ظهور مؤسسات أخرى معولمة حديثة محل مؤسسات كانت قائمة قبلا.

إذن فما هي أهم التحولات التي لامست هذه المؤسسات؟ وما هي العوامل التي أسهمت في هذا التحول؟

سأجيب عن هذا الإشكال في ثلاث فقرات، تخصص كل واحدة لوصف وتحليل نوع التحولات التي أصابت كل مؤسسة من هذه المؤسسات، والأسباب الكامنة وراء هذه التغييرات.

مؤسستا “لجماعت وتاقبيلت”

تعتبر “لجماعت وتاقبيلت” مؤسستين منبثقتين عن دواوير سوس العليا، وهذه الدواوير هي وحدات سكنية واجتماعية تؤوي عددا من العائلات، وقد تنتمي إلى جد مشترك في كثير من الحالات، ومنتمية بالضرورة إلى نسق قبلي واحد يسمى “ووازكيض”، كان يوكل إليها أمر السهر على تنظيم المشترك الجمعي لهذه العائلات المشكلة للدواوير، وقد كانت إلى الأمس القريب محور كل الرهانات ومفتاح كل الاحتمالات في دينامية النسق القبلي. إنهما مؤسستان غارقتان في القدم عرفتهما القرى المغربية وفق تسميات شتى: لجماعت، إنفلاس، أيت الربعين…، معبرة عن الانتماء والتجذر الاجتماعي والإبداع في تنظيم المجال.

تشكل “لجماعت” إحدى البنيات الأساسية للقبيلة، التي تنبثق من السكان لتدبير الشأن المشترك للدواوير وللدفاع عن مصالحهم، وتنظيم العلاقة فيما بينهم وبين الدواوير المجاورة أو بينها وبين القبيلة، وتتكون من ممثلي العائلات أو العظام (إخسان)، كما تقوم بتسيير شؤونه ككيان اجتماعي وسياسي (هيئة اجتماعية وسياسية)، وهي دعامة أساسية للتضامن الجماعي من خلال المساهمة في مساعدة المحتاجين والأشخاص المصنفين في وضعية صعبة، وغالبا ما يتم ترؤسها من طرف أحد الشيوخ، الذي يحمل رساميل مادية ورمزية تمنحه نفوذا وتأثيرا في الناس، ويكون ممثلا لها أو يتم تعيين ثلاثة أشخاص من كبار السن لتمثيلها أمام التنظيمات الأخرى (أمام القبايلة والمخزن والدواوير والزوايا)، وعادة ما تلتئم “لجماعت” عقب صلاة الجمعة أو بمناسبة الأعياد والمواسم، كما تجتمع بشكل شبه يومي عقب صلاة العشاء في حالات موجبة للاستعجال للبت في أي مستجد طارئ.

تشتغل دوما وفق نهج ديموقراطي، يتأسس على أحقية الجميع بدون استثناء في التعبير عن الرأي والدفاع عن مصلحته ووفاء لهذا الميسم الديموقراطي. كما تدبر شؤونها بمنطق الأغلبية المطلقة، وتتخذ قراراتها وفقا لهذا المنطق بعد استنفاد المناقشة والحصول على التوافق حول النقط الخلافية، وهذا ما يجعل قرارات مؤسسة “لجماعت” موجبة للامتثال والتنفيذ حتى من قبل الذين تغيبوا عن الاجتماع، وقراراتها ملزمة للجميع.

كانت تختص وظيفيا بتدبير المشترك من ماء وأرض ومجال مقدس داخل المجال الجغرافي للدوار، وتقرر عمليا في العلاقات مع مستويات القبيلة الأعلى، كما تسهر على تأطير العيش المشترك عبر تقنين الري وأراضي الجموع، والاتفاق على تدبير الشأن الديني (الشرض ن الطالب، المواسم الدينية والزوايا) لتأمين استمراريته وفعاليته. كما أنها تعد مؤسسة للتحكيم من خلال رأب الصدع والبت في النزاعات بين “أيت أودوار”، وفي مستوى ثالث تقدم نفسها كمؤسسة دفاعية تنافح عن مصالح الدوار المنبثقة منه بالتعامل مع مستويات القبيلة الأعلى، وتدبير مسألة الحدود والمراعي مع دواوير الأخرى، وتدبير الخلافات، التي غالبا ما تكون في أمور تتعلق بمجالات الرعي والزراعة والتحكيم والوساطة بين المخزن والقبيلة ولجماعت. والوصول إلى القرار لا يكون دوما سهلا في غالب الأحيان، حيث يتطلب عرضا لمختلف وجهات النظر، فكل فرد له حق الكلام في هذه المؤسسة التنظيمية.

لذلك مؤسسة “لجماعت”، وبالنظر إلى وظائفها والقيم المرتبطة بها كالتعاضد والتضامن والعدالة، بمفهومها العرفي، والتشاور وروح التضحية والانضباط والبحث عن أنجع السبل لتدبير الشؤون الجماعية، يمكن اعتبارها من صميم الحداثة السياسية أو على الأقل من أكثر البنيات الاجتماعية القروية تأكيدا وقوة وفعالية في تدبير الشأن الجمعي المشترك على حد تعبير الأستاذ عبد الرحيم العطري.

وإذا كانت مؤسسة “لجماعت” داخل دواوير سوس العالية تشكلت من ممثلي العائلات تاريخيا من أجل الدفاع عن مصالحها، وتقوم بتسيير شؤونها باعتبارها كيانا اجتماعيا وسياسيا لها أعرافها، ومهامها، حيث هناك أعراف تنظم كل نازلة، فالإتيان بسلوك غير سوي مخالف للعرف والعادة والدين يستدعي حضور “لجماعت” للنظر في الأمر، أو كلما ظهرت حاجة إلى خدمات تكتسي صبغة جماعية وتتصف بأنها في الصالح العام للدوار أو للقبيلة، يعني هي التي تعمل على تدبير أمور مشتركة داخل الوحدات المشكلة للقبيلة، وتتفرع عنها مؤسسة أخرى تشكل لتنفيذ مخرجات كل اجتماع لـ”لجماعت”، هي “إمزوارن”. وكل تصرف أو سلوك مخالف لأوامر “لجماعت” يستوجب تسديد غرامة تحددها الأعراف أو العادة الاتفاقية سلفا تسمى “أزاين”. وتعتبر هاتان المؤسستان القلب النابض لكل دوار من دواوير سوس العالية. أما النزاعات المرتبطة بالأشخاص، والتي لا تكون بسبب الأرض والماء، فكانت “لجماعت” تحويها وتدبرها باستثمار آلية “لار نربي، تظاليب، أودماون”، و”لجماعت” تحل بمجرد وصول خبر النزاع إلى منزل المتضرر لجبر خاطره وثنيه عن إخبار المخزن وعدم الزج بالأمر في ردهات المحاكم.

إذن “لجماعت” هي منظومة متكاملة من القيم في نسق بنائي ووظيفي، إذ أنه لا معنى للبناء دون وظيفة ولا وجود لوظيفة من دون بناء أساسي يتكون من بنايات قائمة وفاعلة تجسد الحضور للإنسان والمجال والعلاقة التضامنية ولتفاعلات التأثيرية وفق تحولات الزمان والمكان، لكن مستها تغييرات بفعل تحولات عميقة استوجبت التحديث والتطوير، بدءا من المرحلة الكولونيالية وانتهاء بمغرب ما بعد الاستقلال، حيث تم تكسير البنيات القبلية واستبدالها بتنظيمات إدارية قائمة على فكرة اللاتجذر الاجتماعي لفاعليها ومدبريها. هذه التحولات كان لها الأثر البالغ في تغيير ملامح هذه المؤسسة وتغيير وظائفها وأدوارها، بل إن التغيير سيصير في بعض الأحايين تحويرا للمهام الأصلية، التي حتمت الانوجاد الأولي في تضاريس النسق المجتمعي.

وقد ذكرني هذا بأحد النصوص المبشرة بميلاد الدولة الحديثة غداة الاستقلال، جاء فيه ما يلي: إن تطور البلاد اقتضى انكسار البنيات القبلية التي لا يمكن من الآن فصاعدا أن تكون الأساس لإرساء أجهزة تمثيلية، ولذلك ارتأينا من الأفضل أن تكون الجماعة كخلية اجتماعية وسياسية جديدة الأساس لتنظيم المغرب الحديث. (خطاب محمد الخامس رحمة الله عليه لـ8 ماي 1958).

وإذا كانت هناك تحولات جذرية مست مؤسسة “لجماعت”، حيث تغيرت معالمها وأدوارها ووظائفها واختصاصاتها، فإن هذا التحول كان كذلك بسبب مقتضيات فرضتها العولمة، حيث تغير النظام القبلي وتم تعويضه بنظام معولم شكلا ومضمونا، أي الجماعات المحلية بمستوياتها، وتم تعزيز دور الدولة أو السلطة المركزية في إطار نموذج الدولة المعولمة المستوردة. هذا التغيير منح كافة المهام التي كانت خالصة لمؤسستي “تاقبيلت ولجماعت” إلى مؤسسات تابعة للدولة، فالنزاعات من اختصاص مرفق القضاء، وتدبير المجال للمؤسسات العمومية، والاختصاصات التنموية موزعة بين المرافق العامة للدولة والمؤسسات المركزية واللامركزية، أما الأمن والضبط فهما من اختصاص وزارة الداخلية….، ولهذا فإن آخر مسمار دق في نعش النظام القبلي كان قانون الجماعات الحضرية والقروية. إن هذا التحول الذي أتى على البنيات الاجتماعية التقليدية شمل أيضا تراتبية تطبيق القواعد المنظمة للمجال، فلم يعد الدين والعرف من يتصدر هرمية القواعد المطبقة، بل الدستور، ثم القوانين التنظيمية والعادية والقرارات، ثم الأعراف والعادة الاتفاقية في الأخير.

وبالنتيجة فإن التدخل الدولوي في المجال القروي عموما خلال سنوات الاستقلال كان من بين الأسباب الرئيسية في صناعة التحولات الكبرى التي همت القرى المغربية بشكل عام وسوس العالية بشكل خاص، بإحلال التنظيمات الإدارية الجديدة محل التقليدية لتدبير المشترك، بل إنه سار على نهج المشروع الكولونيالي الرامي إلى تكسير هذه البنيات التقليدية بغية الانتقال من القبيلة إلى الجماعة الإدارية. هذا التدخل كان مصحوبا أيضا بإحداث مؤسسات قضائية وإدارية وصحية وتعليمية وسياسية ترتبط بالسلطة المركزية، ويغيب عن مسؤوليها معطى التجذر الاجتماعي، أملا في استبدال الأساس الاثني بآخر ترابي إداري ينتمي إلى سجل الدولة الحديثة بدل سجل “المخزن والقبيلة”.

إن إزاحة الأنظمة التقليدية يحتاج إلى جرعات إضافية من التدخل يتجاوز مؤسسات اللامركزية واللاتمركز، خصوصا في القرى، وذلك بإحلال تنظيمات أخرى لتحل مكان “لجماعت” فيما تبقى من المهام، ولتملأ الفراغ الذي أحدثته التغييرات المرتبطة بالتحديث، وهذه الجرعات هي الجمعيات، التي أشرنا إليها في المقال السابق، حيث بدأت العمل على تنميط الدواوير والسعي لأخذ مكان مؤسسة “لجماعت” في إطار نموذج مستورد لم ينبع من المجتمع، بل معولم يساير طبيعة الدولة المعولمة والنظام الرأسمالي، فهي بنت النظام الرأسمالي على حد تعبير “الفرفار العياشي”.

وفي الحقيقة، ميلاد الجمعيات يعبر عن حالة من الانشقاق والانهيار داخل بنيات اجتماعية تقليدية نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتسارعة، فبروزها كتنظيمات اجتماعية جديدة تسعى لتتماشى والتحولات الاجتماعية باعتبارها تقام كبديل عن المؤسسات الاجتماعية التقليدية، بداية من جمعيات الماء الصالح للشرب، وجمعيات أراضي الجموع، وصولا إلى الجمعيات الفلاحية …، يعبر صراحة عن محاصرة وظائف “لجماعت” التقريرية، كما يعبر كذلك عن رغبة في إحلال قيم الحرية والمساواة والمبادرة الفردية داخل الدواوير، والتي تتماشى والتنظيمات الحديثة في التدبير والتسيير بدل الأنظمة التقليدية التي تفرض قواعد رتيبة ومعدة سلفا، وهذا التحول أدى إلى كثير من الصدامات بين الأجيال في كثير من مناطق سوس العالية، ولعل مرحلة الانتخابات الأخيرة خير مثال على ذلك، حيث لاحظنا أثناء مراقبتنا للممارسة الانتخابية كيف بادر الشباب إلى تأسيس جمعيات قبيل الحملات الانتخابية وعملوا من خلالها على إزاحة رأي “لجماعت” لتحل محلهم في الرأي وقيادة المواقف الانتخابية، وذلك بمنع “لجماعت” من اتخاذ أي موقف متفق عليه بالإجماع، وقد استطاعت هذه الجمعيات النجاح فيه إلى حد كبير، ووقع هذا كثيرا في دواوير تابعة ترابيا لجماعتي أسكاون وتاويالت، بل إن بعض الجمعيات استطاعت التأثير في العملية الانتخابية لصالح مستشارين دون آخرين، مما تولد عنه نوع من الصراع بين الأجيال، بين جيل معمر يتمسك بالقيم التقليدية ورأي “لجماعت” وكبار السن الجامع المانع لأي انشقاق في الرأي، وبين جيل الحرية والمبادرة الفردية المتمثلة في من يقود الجمعيات.

إن هذا التحول الذي يحدث الآن رويدا هدفه إفراغ مؤسسة “لجماعت” داخل الدواوير من محتواها كآخر ما تبقى من البنى التقليدية، حيث تم إفراغها من وظائفها السياسية والتقريرية، ولم يتبق لها سوى ما هو بسيط من المهام كتنظيف السواقي وتعبيد الطرق والمسائل ذات الطابع المشترك من داخل الدواوير والتي في الغالب هي اختصاصات القرب موكولة للجماعات الترابية حاليا، فالتحديث وتسلق عالم العولمة والرغبة في التحكم في المجال والسير على منوال المستجدات والتحولات العالمية كان وراء القضاء على البنيات التقليدية المكونة للمنطقة.

أما بالنسبة إلى “تاقبيلت”، التي تشكل تنظيما أعلى من “لجماعت” على اعتبار أن كل تجمع للدواوير يسمى “تاقبيلت”، فالمنطقة تؤثثها عدة قبائل، منها قبيلة إدنوح إرناتن، أيت ساسون، أيت وحمد، أيت سغروشن….، تنتمي تاريخيا إلى مجموعة القبائل “الواوزكيتية” الممتدة على سفوح جبال سوس، ومن مهامها تدبير ما هو مشترك بين القبائل من الماء، والمجال الرعوي، ثم العلاقات مع المخزن، خصوصا فيما يتعلق بفرض الضرائب، بالإضافة إلى البت في النزاعات التي كانت تطفو على العلاقات القبلية بين الفينة والأخرى، ثم مسائل الدفاع والأمن، حيث إن كل تنظيم من هذه التنظيمات يقوم بمهامه بناء على أعراف، ويحتكم في عمله إلى العرف وأحكام الشريعة الإسلامية والعادات والتقاليد وفق الترتيب المذكور، وكان أهم عنصر تتميز به هو الاستقلالية في التدبير واتخاذ القرار. إذن “تاقبيلت” مؤسسة عليا فوق “لجماعت”.

وحسب بول باسكون، فإن القبيلة جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية وجغرافية، أي علاقة الإنسان بالأرض والطاقة البشرية والثروة الطبيعية لفضاء ما في مستوى معين، ويمكن تقسيمها حسب جاك بيرك إلى قبائل كبيرة تسكن الهضاب العليا والجنوب، وقبائل صغرى تعيش في الساحل.

إلا أن ما يجب الانتباه إليه أن القبائل التي كانت تدبر المنازعات غالبا ما تكون مرتبطة بالحدود وخلافاتها واختراق مجال الرعوي بين القبائل أو حتى بين مكونات الوحدات المشكلة للقبيلة ونزاعات السقي ومياه الآبار والأعين الخاصة بالشرب أو عدم احترام “لجماعت” لقرارات القبيلة بدون عذر مقنع، فهنا تبرز أهمية القبيلة كوحدة تنظيمية أعلى مشرفة على الأمن العام والسكينة العامة بين الوحدات المشكلة للقبيلة. أما النزاعات بين القبائل فكانت تدخل تاريخيا ضمن مهام المخزن (التحكيم القبيلي)، والتي تعتبر آلية لبسط نفوذه على القبائل. أما في الوقت الحالي فإن التحكيم والمنازعات من اختصاص مؤسسة القضاء في إطار الدولة الحديثة والمعولمة. والنتيجة أن الوظيفة التحكيمية والقضائية لـ”لجماعت وتاقبيلت” آخذة في الانمحاء والتراجع، ولعل تسجيل الشكايات لدى الضابطة القضائية مؤشر كاف لمعرفة حجم التحول في هذا المنحى.

إلا أن ما يميز النظام القبلي عن المستورد المتطور والمعولم أنه نظام من إنتاج مغربي محلي خالص تأسس عبر مسار تاريخي طويل، وأبدع فيه العقل المحلي إلى حد كبير وتتمتع من خلاله المنطقة باستقلالية كبرى في تدبير الشأن العام للقبائل، ثم إن هذه المؤسسات التقليدية كانت تدبر هده الخلافات بأقل قدر ممكن من الخسائر والتكاليف، فمفاهيم مثل تاقبيلت، لجماعت، إمزوازن، أزاين، أبراح ….، كلها من إبداع محلي خالص، ولهذا عندما يأتي القياد الجدد إلى المنطقة ويرفع الناس إليهم شكواهم غالبا ما يستفسرون عن معنى هذه المفاهيم، لكن في المقابل فإن البنيات الحديثة أكثر تطورا بقوانينها وآليات اشتغالها، وأكثر فعالية في التحديث والتغيير والفعل التنموي المتطور.

المخزن: القايد/أمغار/المقدم

أنتج المغرب على مر التاريخ مؤسسات تقليدية للضبط وتحقيق الأمن العام والسكينة العامة والتدبير اليومي لشؤون الناس، كالشيخ والمقدم والبراح والجراي الذي ينبثق منه المقدم، ثم العريفات من النساء اللواتي يقمن بأعمال إدارية بحكم طبيعتهن وصونا للحياء والحشمة في الثقافة المغربية. وهذه المؤسسة غالبا ما تعرف عادة لدى القروي بالمخزن، رغم أن المخزن في تمثلات الإنسان القروي تشمل كل موظفي مؤسسات الدولة من أساتذة ومعلمين وموظفي البريد والجماعات الترابية والدرك الملكي….إلخ، على حد تعبير القائد السابق والمفكر والباحث عبد الله شنفار في مقال له حول أعوان السلط.

والمخزن بالأساس هو ثمرة مشروع مخزني استطاع القضاء على بلاد السيبة، والوصول إلى حالة من مأسسة العنف والانفراد به في المركز، أو ما يسمى العنف المشروع. واحتكار العنف يعني احتكار السلطة، بالاعتماد على عنصري العنف والرضى به، لأن القوة الأقوى ليست عنف المسيطرين، بل رضا المسيطر عليهم، هذه الثنائية هي التي كرست الوجود المخزني في المغرب على حد تعبير عبد الرحيم العطري.

ونظام القايدي أو “القايد” أوجد في حضن قبائل كانت مستقلة نوعا ما، حيث كانت تعين بنفسها رؤساءها، كما تختار ممثلا عن أسرة قوية ليتسلم قيادتها، وفي إطار حاجة المغرب إلى من يحصل الضرائب من القبائل وتمثيله في أعماق هذه القبائل وأن يضمن له جانبا من هذه الضرائب، وبالتالي اعتمد المخزن المركزي على رؤساء هذه القبائل لكونهم المؤهلون لذلك. فتحصيل الضرائب والاحتفاظ بجزء منها كان ذلك الدافع إلى ترسيخ نظام القايدي، فتحول الزعيم في القبائل تاريخيا من مدافع عن القبيلة باعتباره متجذرا فيها إلى موال للمخزن ونيل رضاه، وهكذا ترسخ نظام القايدي في مناطق كانت مستقلة وتنعت ببلاد السيبة. وبالتالي فإن علاقات المد والجزر التي كانت تربط المخزن بالقبائل في مسائل الضرائب والولاء مسؤولة إلى حد ما عن بروز زعامات جديدة وعلاقات جديدة، ونظام القايد أو الظاهرة القايدية تأسست تاريخيا على هذه الزعامات، أو عن طريق عائلات متجذرة اجتماعيا، وتم العمل على تقويتها.

وتاريخيا فإن سلطة المركز في اختيارها أو إعادة إنتاجها للزعامات المحلية يشترط فيها أن تكون مستيقظة لعدد من السكان، ومسيطرة على مجال معين، ومتوفرة على قوة قادرة على تحدي السلطة المخزنية في المركز، إلى جانب إطار إيديولوجي قادر على المنافسة والإقناع. وتثبيت الزعامات المحلية بالنسبة للمخزن يفترض شرط الانفتاح على كل بنيات المجتمع القروي، بالإضافة إلى القدرة على امتلاك وسائل وآليات الإقناع المرتبطة بالشعبية الخاصة، باعتبار الزعيم جزءا من تشكيلات مجال القبيلة، وعلى دراية تامة بالظواهر والخبايا.

إنها سلطة تتأسس على تراتبية معينة وفق وظائف متكاملة، وكلها من أجل تحقيق امتداد المخزن داخل المجتمع القروي، والحفاظ على المصالح المتنوعة، وبذلك يتحكم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في حركية أو سكونية القرار داخل هذا العالم، فعلى رأس كل أربعة إلى ستة دواوير نجد المقدم الذي يتم تعيينه من طرف القايد، وعلى رأس كل ثلاثة أو أربعة مقدمين نجد الشيخ، ثم الخليفة الذي يعمل كنائب للقايد، وكل هؤلاء ينتمون إلى نفس المكان، ولهم علاقات بالسكان، باستثناء القايد الذي يعتبر أجنبيا عن المنطقة.

وهو نفس المنطق الذي عملت عليه السلطات الاستعمارية، حيث عملت على استمالة القياد إلى جانبها من أجل العمل على إخضاع المغرب لسلطة الاستعمار، ومنطقة سوس العليا كانت أثناء المرحلة الكولونيالية تحت سلطة القايد الكلاوي “أكلاوو” في الحوز، مع ممثليه في منطقة سوس العليا كالقايد “أوحمد” و”بوسفار” و”حموا” و”أوتكنتافت”….، مع الحرص دائما على توسيع صلاحيات هؤلاء القياد.

إن دور المخزن في المجتمع القروي تغير وتوغل بشكل كبير، فإذا كان قايد الأمس منبثقا من القبيلة وله تجذر اجتماعي، وطريقة تعيينه تكون وفق قواعد وأعراف صيغت بشكل مستقل عن المخزن والسلطة المركزية، فإن مرحلة إخضاع بلاد السيبة (القبائل المستقلة)، ثم المرحلة الكولونيالية، ثم مرحلة التحديث في عهد الاستقلال.. كلها مراحل وقعت فيها تحولات كانت وراء بروز القيادات المحلية الإدارية كما هي عليه اليوم، حيث في مرحلة ما بعد الاستقلال وبناء الدولة الحديثة بأجهزتها الإدارية تغيرت طريقة تعيين القايد، فالآن لم يعد له تجذر اجتماعي كما في السابق، بل أصبح يعين بظهير شريف، ثم وقع تحول كذلك في شروط اختياره، فقايد اليوم ليس هو قايد الأمس، قايد اليوم يتم اختياره ضمن من تقدموا للمباراة بعد استيفاء الشروط المطلوبة ونجح في المباراة الخاصة بهم، واستكمل دراسته وفق نظام تكويني في المعهد الملكي للإدارة الترابية، كما أن هناك تغييرا جذري في مهامه واختصاصاته كما هو وارد في الظهير المنظم لاختصاصات رجال السلطة.

أما بالنسبة إلى “أمغار” فكان تاريخيا يتم تعيينه على رأس كل قبيلة، ويساعده في مهامه مساعدوه “المقدمين” الذين يشتغلون تحت إمرته للدفاع عن مصالحها، وله وظائف أخرى كتدبير النزاعات بين الوحدات المشكلة للقبيلة “إدوران”، وبين القبائل الأخرى المجاورة، وحتى في العلاقة مع المخزن، وغالبا ما يتم اختياره ضمن من هو أجدر بتلك المهمة، ويستطيع أن يضحي بوقته وماله من أجل القيام بما يلزم لصالح القبيلة، وهو يكون على علم ودراية وحنكة بقضاياها وخباياها.

وخلال الفترة الكولونيالية حافظت سلطات الاستعمار على “إمغارن والمقدمين” لتدعيم ركائزها بين أوساط السكان، لكن بعد الاستقلال وقع تغيير مهم في هذه الفئة، التي طالها التغيير كثيرا. “فأمغار” شيخ القبيلة أصبح مرتبطا بشكل كبير بالدولة بدل ارتباطه بالقبيلة، وتم إدماجه ضمن مستخدمي وزارة الداخلية كأعوان للسلطة، وله أجرة وأدوات للاشتغال، وله مهامه أيضا، وأخذ مكانه ضمن نسق الدولة الحديثة بدل النسق التقليدي، ونفس الشيء بالنسبة إلى “المقدم”، حيث برز نظام هرمي يتصور السلطة بشكل تراتبي، والذي شكلوا فيه مرة أخرى الدرجات الدنيا، وحافظ هؤلاء الملحقون بمؤسسة القايد على أدوارهم التقليدية في المجتمع المغربي.

كما أن قياد اليوم يعتمدون على هؤلاء التابعيين، الذين يحتلون آخر الدرجات في السلم الإداري في وزارة الداخلية، فعن طريقهم يتم الامتداد داخل المجتمع، ويتأكد حضور الدولة المراقبة على كافة الأصعدة، فحتى في فترات ما قبل الاستعمار كانوا يحتلون هذه المكانة ويقومون بنفس المهام، وهي إجبار الناس على دفع الضرائب، التي كانت تصلهم منها نسبة ضئيلة بعد أن يخصم القايد نسبته من المجموع المحصل لفائدة المخزن المركزي، وحتى مهام “المقدمين” لم يشملها أي تغيير، فقد كانت مهامهم تتمثل في التبليغ، وتمرير فحوى القرارات المخزنية إلى السكان، ثم وظيفة الاستخبار، ومراقبة من يخالف التعليمات، بل إن أدوارهم في القرى المغربية تعاظمت كثيرا، حيث يقومون بمهام ليست لهم ولا يتقاضون عنها أي تعويض.

المسجد: “تيمزكيدة/ الطالب”

“تيمزكيدة” مؤسسة أساسية شكلت ذلك الفضاء الذي يحفظ الأمن الديني داخل الدواوير، أثثت الفضاء الجمعي العام للمنطقة. وتاريخيا لها مهام كثيرة وأساسية، حيث بالإضافة إلى اعتبارها مكان إقامة الصلاة، وأداء الشعائر الدينية، لها مهام تعليمية، فهي مدرسة لتعليم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وتنظيم دروس الوعظ والإرشاد، والتربية على القيم والآداب العامة، ومراقبة سلوك التلاميذ “إمحضارن”، والسهر على تربيتهم من طرف إمام المسجد “الطالب” الواعظ والمرشد، الذي يعتبر كذلك عضوا استشاريا في مؤسسة “لجماعت”، يستشار في مسائل “شرع الله”، وإعطاء الرأي في النزاعات وعرض محاولات الصلح (إصلاح ذات البين)، كما يتقن فن الخياطة وتعليمها لأحد تلامذته الكبار “أبرشمان”.

كما أن “الطالب نتمزكيدة” الفقيه كانت له رمزية كبيرة، حيث يتم اللجوء إليه في اللحظات الصعبة، لاسيما في وقت انحباس المطر، حيث يقوم الفقيه بناء على طلب السكان باختيار أطفال دون سن البلوغ لهذه المهمة مقتبسا عن الترغيب في مشاركة الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في صلاة الاستسقاء، وتضرعهم إلى الله أن يسقي عباده وبهيمته وأن ينشر رحمته، فهم في هذه السن موطن البركة، يسمع الله دعاءهم، ويرحم بهم من يشاء، لأنهم لا يرتكبون من الذنوب والسيئات ما قد يرتكبه البالغون، وهم لا يسألون عما أجرموا لأنهم دون سن التكليف.

لكن مركزية الفقيه أتى عليها من التغيير كذلك ما يمكن اعتباره تغييرا جذريا، حيث تم حصر أدوارها من خلال مسلسل من التحولات قادتها عوامل مرتبطة بمناخ العولمة، حيث تقلصت إلى أبعد الحدود، ولم يعد للفقيه سوى إمامة الناس وخطب الجمعة، بل حتى هذه الأخيرة يتم العمل على توحيدها وتنميطها من طرف السلطة المركزية. وبالتالي لم تتبق له تلك الأدوار التي كانت له في السابق، باعتباره المعلم الأول بالقرية أو الدوار، والحكم بين الناس في خلافاتهم ونزاعاتهم الدينية والدنيوية. كما أن الفقيه “الطالب نتمزكيدة”، الذي لم يكن دوره محصورا داخل الكتاب، بل امتد إلى بيوت تلاميذه “إمحضارن”، فقد كان سلطة حتى في غيابه، حيث يقوم الآباء بإخافة أبنائهم في حالة ارتكاب فعل غير مقبول بادعائهم أنهم سيخبرون الفقيه بما فعلوه. إذن بالإضافة إلى مهمة تحفيظ القران الكريم وتربية الطلبة هناك مهمة المراقبة التربوية كذلك، وتتمثل في معاقبة كل من خالف القواعد والآداب العامة حتى ولو كان الأمر في المنزل وخارجه.

إن انهيار مؤسسة الفقيه، المربي والمدرس والحكم بين الناس، يعني أن سلطة اجتماعية قد انهارت وحلت محلها أخرى معولمة، تتجسد في نمط التدريس ووسائله من خلال اكتساح التعليم الأولي المسير من طرف الجمعيات والمدارس النظامية، حيث يتم تعليم الأطفال تعليما عصريا مبنيا على القيم الجديدة، تأخذ فيه الرياضيات والفرنسية والمواد الأخرى الحصة الكبرى، والقرآن الكريم والحديث الشريف حصة ثانوية. بهذا يكون النظام التعليمي المعولم قد حل محل التقليدي العتيق فـ: تالوحت، أكراج، تادوات، لقلوم، الصلصال، تاربعيت ن الطالب، …، كلها مفاهيم في طور الانحسار وربما الأفول والاندثار، لتحل محلها مفاهيم: السبورة والطباشير والكراس، وحتى السبورة التفاعلية واللوحة الإلكترونية، على اعتبار أن القرية أصبحت جزءا من هذا العالم بعد أن تم ربطها بشبكة الكهرباء وشبكة الأنترنت والتكنولوجيا.

والإضافة إلى انحسار مهام المسجد والأدوار التي كان يقوم بها الفقيه قبلا، وقعت تغييرات كذلك في العلاقات النظامية مع هذه المؤسسة، فالفقيه “الطالب” لم يعد يمارس مهامه بناء على العلاقة التعاقدية مع مؤسسة “لجماعت” كما في السابق (الشرض ن الطالب)، بل أصبح تابعا لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فهي من تعينه ولها في ذلك حتى سلطة العزل، كما لم يعد يتقاضى أجرته منهم إلا لماما، بل أصبح مثل الموظف بكافة حقوقه، فضلا عن أن المساجد في طور التحول لتكون في ملكية وزارة الأوقاف وليس في ملكية “لجماعت”. إنها ظاهرة تدويل الحقل الديني، أي جعله دولتي، وهذا سيكون له أثر على الخطاب والممارسة الدينية.

إن انهيار مؤسسة الفقيه كسلطة تقليدية، وانحسار الكتاتيب القرآنية، تعكس تحولا اجتماعيا عميقا في بنية المجتمع القروي المحافظ، واستبدال القيم التقليدية الشعبية المحافظة بقيم جديدة، وهي قيم ليبرالية، حيث الرغبة في تعلم اللغات الأجنبية والحساب بدل القرآن الكريم.

ورغم هذا الإعصار من العولمة فإن المنطقة أعتبرها صامدة، حيث رغم كل التغييرات لا تزال تقاوم، ويتبين ذلك من خلال مواصلة تدريس القرآن الكريم في المساجد “تاخربيشت” في كثير من الدواوير، ولو بشكل متأقلم مع المستجدات.

كما تم إنشاء مؤسسات للتعليم العتيق “لمدرست” في المنطقة لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم دروس الحديث لتخريج الأئمة والخطباء الذين يحتاجهم المجتمع. كما تم إصلاح البرامج التعليمية الخاصة بها، حيث تم إدخال مواد أخرى ضمن البرامج الدراسية الخاصة بها كاللغات الأجنبية والرياضيات والتاريخ من أجل تكوين الأئمة المواكبين لشروط ومتطلبات العصر ومستجداته وعلى دراية بظواهره، فضلا عن فتح آفاق المواصلة العلمية لهم في الكليات والجامعات والمعاهد من أجل جعل الفقيه كفئا في تخصصه.

The post سوس العالية.. appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

 

Leave a Reply

Deine E-Mail-Adresse wird nicht veröffentlicht. Erforderliche Felder sind mit * markiert