لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ

“نحن، اليهود، طُردنا من الأرض المقدسة وتشتتْنا في أنحاء العالم لأننا فشلنا في المهمة التي أوكلها الله إلينا. لقد اختارنا لنحمل كلمته، لكننا، بسبب غطرستنا وعنادنا، اعتقدنا أنه جعل منا “الشعب المختار” لمصلحتنا الخاصة فقط. وبهذا الفعل قد خُناه. فلا يبقى لنا سوى التوبة وتنقية قلوبنا”. كانت هذه كلمات يعقوب دي هان Jacob de Haan اليهودي الأرثوذكسي الهولندي الذي كان أستاذا للقانون، ثم صار مراسلاً خاصاً في القدس لصحيفة Handelsblad في أمستردام وDaily Express في لندن. كلمات ضد الصهيونية الرائجة في ذلك الوقت، كررها مرات عديدة عام 1922 أمام محمد أسد، الذي كان يهودياً حينها قبل أن يعتنق الإسلام عام 1926، ونقلها لاحقاً في كتابه “الطريق إلى مكة.”

كلمات مدهشة حقا، إذ تتوافق تماماً مع ما جاء في القرآن الكريم، وتتعارض كلية مع المراجع اليهودية من مثل الوعد المزعوم من رب العالمين جل جلاله، لإبراهيم: “وأعطيك أنت وذريتك من بعدك الأرض التي تقيم فيها غريباً، كل أرض كنعان، ملكاً أبدياً، وأكون إلههم”. [التكوين 17:8]. وزد عليه هذا التفسير التلمودي الأكثر تطرفاً في العنصرية : “لقد خُلق العالم فقط من أجل سعادة بني إسرائيل. وبنو إسرائيل هم الابناء الوحيدون لله، وهم وحدهم أحبّاؤه” (التلمود Tractate Gerim : 1.)، حيث تحوّلت تلك الأرض المباركة من مُنطلق لنشر رسالة التوحيد الإبراهيمية في أهلها وفي باقي الأمم من حولها شرقا وغربا، إلى عقد ملكية عقارية مقدسة خاصة ببني إسرائيل.

ولا أعلم من أين استقى اليهودي يعقوب دي هان ذلك التفسير المتوافق تماماً مع القرآن الكريم، رغم تناقضه مع مرجعيته وتربيته الدينية الأصلية. فكتاب الله يؤكد أن التوراة التي أُنزلت على موسى عليه السلام هي رسالة توحيدية عالمية موجهة لكل البشرية. وباعتبارها ميراثا إبراهيم عليه السلام، فقد خصّ بها الله كعهد للبررة من بين ذريته، أي من الذين يحافظون على نشر إيمان إبراهيم عليه السلام كرسالة توحيد عالمية، وليس كامتياز عقدي قبلي لهم وحدهم. ويذكّر القرآن الكريم بذلك صراحة في قوله تعالى : ” ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلــــــــــنــــــــــــَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124[

فوفق ما جاء في القرآن الكريم، قد خلّف إبراهيم عليه السلام من صلبه ذريتين حاملتين لرسالة التوحيد التي جعله الله بها إماماً للناس جميعاً. الأولى من إسحاق عليه السلام، والتي أخفقت في أداء هذه المهمة العالمية، إذ لم تبشّر، كما هو معروف حتى يومنا هذا، بعقيدة التوحيد بين عموم الناس زاعمة أنها من خصوصياتها التي لا يصح مشاركتها مع باقي الناس كما جاء في تلمودهم كتفسير للعهد القديم والذي يقول : “إن غير اليهود الذين ينخرطون في دراسة التوراة يتعرضون لعقوبة الإعدام، لأنها إرث لنا، وليست لهم”. [التلمود: سانهدرين 59 أ [.ومع ذلك، أنجبت من بينها وبإذن من الله، المسيح عليه السلام، مذكرا برسالة التوحيد كميراث من جده إبراهيم عليه السلام. إلا أنها رفضتها كذلك متشبثة بكونها من خصوصياتهم.

أما ذرية إبراهيم الثانية، فهي من نسل إسماعيل عليه السلام، وقد أحيت بإذن من الله، وبعد بضع قرون من بعثة المسيح عليه السلام، ميراث التوحيد الإبراهيمي العالمي من خلال رسالة الإسلام. وبحسب القرآن الكريم، قد ظهر الطابع العالمي لرسالة التوحيد في دعوة إبراهيم نفسه لقومه من قبل أن تكون له ذرية. ثم ظهر في ذريته من نسل إسحاق منذ موسى عليهم السلام الذي دعا فرعون للتوحيد ولم يكن من بني إسرائيل. وقد آمن به رجل من آل فرعون وقد كان يكتم إيمانه وهو ليس من بني إسرائيل. وآمن به فرعون نفسه لاحقاً كما أراد موسى عليه السلام، لكن بعد فوات الأوان. وقبل ذلك، ووفق القرآن دائما، دعا يوسف وهو أحد أبناء يعقوب عليهما السلام، للتوحيد بين صاحبيه في السجن كتمهيد لتفسير أحلامهما، وهما من غير بني إسرائيل. ولاحقاً فعل سليمان عليه السلام الشيء ذاته مع ملكة سبأ، وهي من غير بني إسرائيل، والتي اعتنقت التوحيد.

لكن ليس من كل ذلك شيء يذكر في العهد القديم، عدى ذكر لقاء كل من هؤلاء الأنبياء بأولئك الأشخاص من غير بني إسرائيل، ومن دون ذكر لدعوتهم للتوحيد. بل قفز قفزا على ذكر كل قصة إبراهيم مع قومه في عهد الملك النمرود، بلا شك لما فيها من رسالة للتوحيد لكل العالمين. وهم يعلمون ذلك جيدا لأننا نجدها كاملة في التلمود كتفسير “مات هاران (وهو أخو إبراهيم) أمام والده” من العهد القديم في سفر التكوين 11:28. وهو التفسير الذي ظل مخفيا كتابة لعدة قرون.

تقول في تفسيره “يريشيت رابا” Bereshit Rabba من التلمود المنبوذ، ما يلي: “كان تارح (وهو أبو إبراهيم عليه السلام) عابدًا للأوثان وبائع أصنام. وذات مرة، ذهب إلى مكان ما، وأقام إبراهيم بائعًا مكانه. فأتى شخص يسعى للشراء. قال له إبراهيم: “كم عمرك؟” قال: خمسون أو ستون سنة”. فقال إبراهيم: “ويل لك من رجل ابن ستين سنة، وتريد أن تسجد لشيء عمره يوم واحد”. فخجل الرجل وانصرف”. وهذا يعني أن رسالة التوحيد عند إبراهيم عليه السلام لم تكن خاصة بذريته كما يزعم التلمود نفسه، وهو يدعو هنا الوثنيين من قومه للتعقل من أجل العدول عن عبادة الأوثان لعبادة الخالق لكل شيء.

وأخيراً، جاء بإذن من الله عيسى عليه السلام من نسل إسحاق، داعياً أيضاً إلى التوحيد العالمي الموروث من جده إبراهيم، فرفضه قومه لهذا السبب إلا القليل ممن آمن به منهم مع غيرهم من عموم الناس، كما نرى ذلك حتى اليوم. لكن سرعان من شوّه الرومان الوثنيون رسالته التوحيدية العالمية لاحقاً بعقيدة التثليث في مَجمع نيقيا سنة 325.

في المحصلة، بدلاً من أن يرث بنو إسرائيل من جدهم إبراهيم عليه السلام رسالة التوحيد لكل البشرية، كما أشار إلى ذلك اليهودي الأرتدوكسي يعقوب دي هان عام 1922 ويؤيده في ذلك القرآن الكريم، حولوها إلى ميراث عقدي حصري وقبلي.

وفلسطين، كأرض موعودة كي تنطلق منها تلك الرسالة التوحيدية العالمية إلى كل البشرية، حولوها إلى ملكية عقارية ربانية خاصة بهم كأبناء للرب المفضلين من دون غيرهم وفق ما جاء عهدهم القديم : “في ذلك اليوم قطع الرب ميثاقاً مع أبرام وقال: أعطي هذه الأرض لذريتك من بعدك، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.” [سفر التكوين : 15:18[.

وعدُ مزعوم فيه عنصرية لا تليق برب العالمين جل جلاله. إلا أنه الوعد الذي عانى من ويلاته الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ثمانية عقود ولا يزال حتى اليوم أكثر من أي وقت مضى. زعم عنصري لم يعد يخفيه أحد من الصهاينة بل يتبجحون به هم ومن يؤيدهم من المسيحيين الإنجيلين ومن غيره، حتى صار يثير مخاوف وقلق شعوب الدول المحيطة بفلسطين في كل المنطقة وبشكل علني وجاد.

وأخيراً، فمن شأن قراءة القرآن الكريم قراءة متفحصة أن تمكّن من فهم نفس الخطأ التاريخي لبني إسرائيل وتبعاته حتى يومنا هذا، والذي ما يزال يُدهشني أن اليهودي يعقوب دي هان قد أدركه منذ عام 1922، رغم كونه يتناقض بوضوح مع مرجعيته وتربيته اليهودية. على أي حال، فقد كان محقاً تماماً.

فمتى يعي الصهاينة هذه الحقيقة ويتوبوا إلى ربهم وينقّوا قلوبهم من تلك العنصرية المقيتة، كما تمنى ذلك يعقوب دي هان، ولا يجرّوا على أنفسهم وحتى على غيرهم من اليهود الذين يتبرؤون منهم عار ذلك الاستياء الشعبي العالمي والعارم الذي صار يلاحقهم كلعنة بكل الوسائل المتاحة وفي كل مكان من أرجاء العالم، ولا سيما في العالم الغربي المسيحي الذي لطال ما أيدهم ولو بالصمت حيال جرائمهم؟

لكن مع الأسف الشديد يبدو أنهم مصرون على طغيانهم الذي هم فيه يعمهون، ولا يؤمنون إلا بمنطق القوة بدلا من منطق الحق البين، فنرقب فيهم وعد الله الوارد في قوله تعالى: ﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [ الإسراء: 7]

The post لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

 

Leave a Reply

Deine E-Mail-Adresse wird nicht veröffentlicht. Erforderliche Felder sind mit * markiert